لم تكن المملكة العربية السعودية تتوقع، عند دفع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الإستقالة، أن تصل الأزمة اللبنانية إلى ما هي عليه اليوم، فالمخطط كان أن تدخل البلاد في مرحلة جديدة، عنوانها الرئيسي رفع تيار "المستقبل" شعار "قطع اليد" التي تمتد إلى البلدان العربية، في إشارة واضحة إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، لكن النتيجة كانت موجة واسعة من الضغوط التي تتعرض لها الرياض للكشف عن مصير عن رئيس الحكومة اللبنانية المحتجز على أراضيها.
بعد بيان الإستقالة، قررت المملكة أن تخرج الحريري إلى الأضواء، عبر مقابلة تلفزيونية لا تقل غموضاً عن الخطوة الأولى، وكان الهدف الأساسي منها التأكيد على حريته في التحرك وفي إتخاذ القرار، إلا أن النتيجة كانت على عكس ما تشتهي سفنها، حيث زادت الشكوك حول الأجواء التي يعيش بها الحريري في هذه الأيام.
في هذا السياق، توضح مصادر سياسية مطلعة، عبر "النشرة"، أن المهم في كل ما حصل هو تراجع الهجمة السعودية أو على الأقل إمتصاص الحدّة التي إنطلقت بها، وتشير إلى أن خطاب "قطع اليد" كان ليؤدي إلى تفجير الأوضاع اللبنانية بشكل غير مسبوق، خصوصاً أنه يعني إنتهاء مفاعيل التسوية السياسية بشكل كامل، في حين الدعوة إلى العودة لسياسة "النأي بالنفس" تفتح الباب أمام حوار وطني حول مختلف الملفات السياسية العالقة.
وتلفت هذه المصادر إلى أن أغلب القوى المحلية والخارجية تدرك جيداً أن حل تلك الملفات أكبر من القدرات اللبنانية، وهو ما كان يدفع الجميع إلى تفضيل تأجيل البت بها إلى حين معرفة الخيط الأبيض من الأسود على مستوى المنطقة، وتشدد على أن أحداً لا يعتقد بأن الأمور في بيروت ستعود إلى طبيعتها قبل معالجة الملفّات الشائكة في الشرق الأوسط، لا سيّما الحرب السوريّة التي تتداخل فيها مصالح مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين.
إنطلاقاً من ذلك، تلاحظ المصادر نفسها عودة الأزمة إلى إطارها الطبيعي، أي المطالبة بالإلتزام بسياسة النأي بالنفس، وترى أن هذا السقف الخلافي قائم منذ بداية الأزمة السورية في العام 2011، وبالتالي ليس هناك أي مشكلة في رفعه ولا خطر في ذلك على الإستقرار المحلي، وتشير إلى تفهم كل من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري لهذا الخطاب.
وفي حين تثني هذه المصادر على طريقة التعامل اللبناني مع أزمة الإستقالة، تشير إلى أهمية المواقف الدولية، لا سيما تلك الصادرة عن البلدان الأوروبية، حيث ترى أن التأكيد المتكرر على ضرورة منع إنزلاق الساحة المحلية إلى المجهول دفع الرياض إلى التراجع، خصوصاً بعد أن وجهت أصابع الإتهام لها بالوقوف وراء إحتجاز الحريري، وتضيف: "إنطلاقا من ذلك يمكن القول أن ركائز التسوية لا تزال صامدة، ومن الممكن البناء عليها من جديد لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل يوم الإعلان عن الإستقالة".
في هذا الإطار، ترى المصادر نفسها أن عودة رئيس الحكومة إلى البلاد ستكون النقطة المفصلية، حيث سيُعرف منه بشكل واضح السقف الجديد الذي من الممكن التفاهم حوله، لا سيما أن القشّة التي قصمت ظهر البعير هي الأزمة اليمنية، التي يؤكد "حزب الله" أن موقفه منها أخلاقي فقط، وتعتبر أن من الضروري ملاقاة الحريري في منتصف الطريق، نظراً إلى أن الضغوط المفروضة عليه كبيرة جداً، وبالتالي لا يمكن أن يستقبل بمواقف متشددة، لأنه حينها لن يكون قادراً على المضي في التسوية.
في المحصلة، تشدد هذه المصادر على أن المطلوب إحتضان الحريري بعد عودته، من أجل إستكمال مشروع التسوية التي تحمي لبنان في هذه المرحلة الدقيقة من عمر المنطقة، خصوصاً أن ما كان مخططاً ليس بالأمر السهل على الإطلاق.